النـص :
رواية إرفعوا صوت التلفاز.. وجع المكان وذاكرته
للمكان ثمةَ سرّ ووقع خص لدى بعض الكُتّاب، فتراه يعيش سحره وقدسيته، لما فيه ذكريات جميلة، وأما بعضهم الآخر فالمكان لديهم ترنيمة الوجع الأولى المحملة بذكريات مؤلمة كذاكرة الطفولة التي انتزعت جذورها منها لتبعده لمكان لا وقع له فيه، فتبقى صور الرحم الأول يراوده كلما نطق باسم ذلك المكان فيعيش وجدا خاصا معه لدرجة أنه يؤنسنه ويستنطقه، وهذا ما لمسناه في بعض الروايات العراقية والعربية، وقد يكون هو البطل الذي يحرك كل الكوامن التي من حوله، وهذا ما تحسسناه وأمسكنا بأول خيوط فعله من خلال عمل الروائي علي الحديثي (ارفعوا صوت التلفاز)، والذي اعتمد بكتابته على أسلوب (المنوفونية) أو المنولوجية الذي يعتمد على راوٍ عليم هو بطل الرواية الذي يكون هو صاحب الحدث الأحادي، يحاول من خلاله أن يشرك الشخصيات الأخرى بأفعال وأحداث جانبية، لكن يبقى هو الشخصية التي ترسم أول ملامح وجع حدثه وما ألمّ به، فالهيمنة تكون للشخصية الفعّالة في العمل..فالبطولة هنا فردية، وإن كان هناك ثمة إشكالات يقع فيها البطل من خلال سير الحدث،
قيم بالية
وهذا ما يعطينا انطباعا أن أبطال أعمال علي الحديثي السابقة يجمعهم مع بطل هذه الرواية هو صفة التمرد، وذلك لما يحمله من ثقافة عالية لفلسفة الوجود والعدم، لذا تراه يرفض كل القيم البالية، ونظرة الدين لدى الآخر، ففلسفته في الحياة هو أن يعيش بسلام، يكره شيئا اسمه البدلة العسكرية، ويكره الكلمة العاهرة (الحرب)، فالإنسانية هي الصفة الغالبة على بطله صلاح عمر علي الذي يعيش أول وجع الذاكرة حين يقف في رحم وجوده الأول (المحمودية) وهو يراجع دائرة تجنيد ليساق إلى محرقة الحرب بعد فشله في إكمال دراسته، وبكاءه لحبيبته (سجى) التي أصبحت طالبة جامعية، فصديقه نذير الذي كان كالظل له في حياته، فمن خلال ذلك المكان يسكنه الحنين إلى مدرسته/ أزقّته/ أصدقائه مهدي وآخرون، فللحرب وجه قبيح لا يحبه، والذي أبعد حبيبته التي سافرت إلى محافظة كربلاء إثر حرب الخليج آذار1991 ليعيش هو دوامة الحزن والضياع وحالة اللا استقرار/ مما يوقعه في إشكالات مع أبيه وحتى مع ضباط المعسكر الذي يتدرب فيه، فالهروب كان مكمنه، فهو الطريق الوحيد للخلاص من لعبة الموت المجاني، فيوقعه ذلك في صراع دائم مع مرؤوسيه، ويكون السجن حصيلته في سجن الحارثية، لا لشيء إلا لأنه نزل دون إذن النزول، فيبقى يعيش ذلك الرفض، مما يعطي انطباعا للآخرين بأنه خاطئ في فهمه، فهو يعيش ضياعات دون علم الآخرين دون علمهم، ضياع نفسه التي وجدها في مكان لا يحبه، وسيق له عنوة، لا مفرّ له من ذلك وإلا يكون الإعدام مصيره، وهذا ما أحدث فجوة بينه وبين أبيه، وضياع المرأة التي كانت النبراس والحضن الذي كلّما ألم به حزن لجأ إليها، (سجى) المرأة التي رُسِم في مخيلة البطل ضياعها دون أن يدرك أن هناك سببا لاختفائها، والذي دفعه للبحث عنها، حتى وإن عاش لحظات الاسم مع امرأة أخرى اسمها (سجى)، ولكن دون جدوى، فالقلب وما يريد، فالواقع الذي يعيشه كان ضبابيا، كل شيء مبهم حوله، ومن محاسن القدر ان يجمع البطل برجل عسكري في وحدته العسكرية فيحاول التقرب منه لأنه من سكنة المحافظة التي سافرت إليها حبيبته، فتتقارب النفوس، وترفع الحواجز بينهما ليصلا بعد بحث طويل إلى المرأة الأولى (سجى) حبيبته، ولكن ثمة حدث مؤلم ألمّ به عندما يكتشف بأنها راقدة في المستشفى، فيحاول الوصول إليها متنكراً بزي ممرض وهو يتنهد بالبكاء
- انها هي.. هي.. هي..
هوية المتبرع
وبعد أن علم بمرضها بفشل الكلية قرر أن يتبرع لها بكليته، ومن دون ان تعلم بهوية المتبرع الأصلي، لذا يطلب من صديقه الكربلائي ان يسجله باسمه، وقد يؤدي غيابه عن العسكرية إلى عواقب وخيمة، خاصة أن المدة التي بقيت له للالتحاق هي خمسة أيام لينفذ قرار العود بالعفو ليلتحق بالوحدة من المستشفى، فيتم الاتفاق مع الكربلائي لإكمال أوراقه، فيبقى يعيش لعبة الذاكرة، يحاول من خلال استرجاع وجه حبيبته التي راح يناجيها بألم، فكتب لها رسالة (منذ ان ذهبت إلى كربلاء وأنا انتظرك)، إلى أن يختم رسالته بشيء من شوق موجع، ليسلمها للطبيب لغرض إيصالها إلى المريضة (سجى) من دون علم أهلها، من دون أن يصل لجواب لسؤاله (هل بقي التلفاز مفتوحا)؟ وجوابه عند الكاتب علي الحديثي وبطله صلاح عمر علي..ثمة سؤال يدور في ذهني: هل نطلق على هذه الرواية بالرواية السيرية أم لا؟.. إن هناك ثمة تشابها ما بين حياة الكاتب وأفكاره الوجودية ومكان ولادته وبين بطل الرواية، فيا ترى من منهما هو السارد الحقيقي؟ أهو البطل؟ أم الكاتب؟... هذا ما سيدركه القارئ الذي سيتفاعل مع أحداث الرواية التي كُتبت بأسلوب جميل وبلغة مختلطة، ما بين الفصحى والعامية، وذلك أسلوب الكاتب في كل كتاباته التي يحاول من خلال تلك اللغة السردية أن يصل إلى روح العمل لأكبر عدد من القراء بكل مستوياتهم..وهناك سؤال آخر أطرحه على الروائي علي الحديثي: هل اختط في مشوار كتابته الروائية أسلوب الرواية السيرية والتي لا تفارقه من خلال مهيمنات أخرى يكررها في كل أعماله كالمدينة/ المقهى/ المكتبة/ السجن بفوارق أزمنته/ والمرأة التي دوما يصل إليها البطل متأخرا، إما كتعويض للزوجة، أو مرض يلمّ بها، لا أدري سرّ عدم إيغال الكاتب في عوالم المرأة الداخلية بكل أبعادها وتضاريسها، فالمرأة عنده هي حالة خارجية تتحرك أمامه..والجواب من المؤكد لدى الكاتب، وهل كتب ذلك على لسان أبطاله من ذكريات وأحداث للتذكر أم للنسيان؟
---------------
- رواية ارفعوا صوت التلفاز / علي الحديثي / 2017 / دار الرابطة للنشر والتوزيع / الإمارات العربية المتحدة.. والفائزة بالمركز الأول في مسابقة دار الربطة للتوزيع والنشر للرواية العربية.
رواية إرفعوا صوت التلفاز.. وجع المكان وذاكرته
للمكان ثمةَ سرّ ووقع خص لدى بعض الكُتّاب، فتراه يعيش سحره وقدسيته، لما فيه ذكريات جميلة، وأما بعضهم الآخر فالمكان لديهم ترنيمة الوجع الأولى المحملة بذكريات مؤلمة كذاكرة الطفولة التي انتزعت جذورها منها لتبعده لمكان لا وقع له فيه، فتبقى صور الرحم الأول يراوده كلما نطق باسم ذلك المكان فيعيش وجدا خاصا معه لدرجة أنه يؤنسنه ويستنطقه، وهذا ما لمسناه في بعض الروايات العراقية والعربية، وقد يكون هو البطل الذي يحرك كل الكوامن التي من حوله، وهذا ما تحسسناه وأمسكنا بأول خيوط فعله من خلال عمل الروائي علي الحديثي (ارفعوا صوت التلفاز)، والذي اعتمد بكتابته على أسلوب (المنوفونية) أو المنولوجية الذي يعتمد على راوٍ عليم هو بطل الرواية الذي يكون هو صاحب الحدث الأحادي، يحاول من خلاله أن يشرك الشخصيات الأخرى بأفعال وأحداث جانبية، لكن يبقى هو الشخصية التي ترسم أول ملامح وجع حدثه وما ألمّ به، فالهيمنة تكون للشخصية الفعّالة في العمل..فالبطولة هنا فردية، وإن كان هناك ثمة إشكالات يقع فيها البطل من خلال سير الحدث،
قيم بالية
وهذا ما يعطينا انطباعا أن أبطال أعمال علي الحديثي السابقة يجمعهم مع بطل هذه الرواية هو صفة التمرد، وذلك لما يحمله من ثقافة عالية لفلسفة الوجود والعدم، لذا تراه يرفض كل القيم البالية، ونظرة الدين لدى الآخر، ففلسفته في الحياة هو أن يعيش بسلام، يكره شيئا اسمه البدلة العسكرية، ويكره الكلمة العاهرة (الحرب)، فالإنسانية هي الصفة الغالبة على بطله صلاح عمر علي الذي يعيش أول وجع الذاكرة حين يقف في رحم وجوده الأول (المحمودية) وهو يراجع دائرة تجنيد ليساق إلى محرقة الحرب بعد فشله في إكمال دراسته، وبكاءه لحبيبته (سجى) التي أصبحت طالبة جامعية، فصديقه نذير الذي كان كالظل له في حياته، فمن خلال ذلك المكان يسكنه الحنين إلى مدرسته/ أزقّته/ أصدقائه مهدي وآخرون، فللحرب وجه قبيح لا يحبه، والذي أبعد حبيبته التي سافرت إلى محافظة كربلاء إثر حرب الخليج آذار1991 ليعيش هو دوامة الحزن والضياع وحالة اللا استقرار/ مما يوقعه في إشكالات مع أبيه وحتى مع ضباط المعسكر الذي يتدرب فيه، فالهروب كان مكمنه، فهو الطريق الوحيد للخلاص من لعبة الموت المجاني، فيوقعه ذلك في صراع دائم مع مرؤوسيه، ويكون السجن حصيلته في سجن الحارثية، لا لشيء إلا لأنه نزل دون إذن النزول، فيبقى يعيش ذلك الرفض، مما يعطي انطباعا للآخرين بأنه خاطئ في فهمه، فهو يعيش ضياعات دون علم الآخرين دون علمهم، ضياع نفسه التي وجدها في مكان لا يحبه، وسيق له عنوة، لا مفرّ له من ذلك وإلا يكون الإعدام مصيره، وهذا ما أحدث فجوة بينه وبين أبيه، وضياع المرأة التي كانت النبراس والحضن الذي كلّما ألم به حزن لجأ إليها، (سجى) المرأة التي رُسِم في مخيلة البطل ضياعها دون أن يدرك أن هناك سببا لاختفائها، والذي دفعه للبحث عنها، حتى وإن عاش لحظات الاسم مع امرأة أخرى اسمها (سجى)، ولكن دون جدوى، فالقلب وما يريد، فالواقع الذي يعيشه كان ضبابيا، كل شيء مبهم حوله، ومن محاسن القدر ان يجمع البطل برجل عسكري في وحدته العسكرية فيحاول التقرب منه لأنه من سكنة المحافظة التي سافرت إليها حبيبته، فتتقارب النفوس، وترفع الحواجز بينهما ليصلا بعد بحث طويل إلى المرأة الأولى (سجى) حبيبته، ولكن ثمة حدث مؤلم ألمّ به عندما يكتشف بأنها راقدة في المستشفى، فيحاول الوصول إليها متنكراً بزي ممرض وهو يتنهد بالبكاء
- انها هي.. هي.. هي..
هوية المتبرع
وبعد أن علم بمرضها بفشل الكلية قرر أن يتبرع لها بكليته، ومن دون ان تعلم بهوية المتبرع الأصلي، لذا يطلب من صديقه الكربلائي ان يسجله باسمه، وقد يؤدي غيابه عن العسكرية إلى عواقب وخيمة، خاصة أن المدة التي بقيت له للالتحاق هي خمسة أيام لينفذ قرار العود بالعفو ليلتحق بالوحدة من المستشفى، فيتم الاتفاق مع الكربلائي لإكمال أوراقه، فيبقى يعيش لعبة الذاكرة، يحاول من خلال استرجاع وجه حبيبته التي راح يناجيها بألم، فكتب لها رسالة (منذ ان ذهبت إلى كربلاء وأنا انتظرك)، إلى أن يختم رسالته بشيء من شوق موجع، ليسلمها للطبيب لغرض إيصالها إلى المريضة (سجى) من دون علم أهلها، من دون أن يصل لجواب لسؤاله (هل بقي التلفاز مفتوحا)؟ وجوابه عند الكاتب علي الحديثي وبطله صلاح عمر علي..ثمة سؤال يدور في ذهني: هل نطلق على هذه الرواية بالرواية السيرية أم لا؟.. إن هناك ثمة تشابها ما بين حياة الكاتب وأفكاره الوجودية ومكان ولادته وبين بطل الرواية، فيا ترى من منهما هو السارد الحقيقي؟ أهو البطل؟ أم الكاتب؟... هذا ما سيدركه القارئ الذي سيتفاعل مع أحداث الرواية التي كُتبت بأسلوب جميل وبلغة مختلطة، ما بين الفصحى والعامية، وذلك أسلوب الكاتب في كل كتاباته التي يحاول من خلال تلك اللغة السردية أن يصل إلى روح العمل لأكبر عدد من القراء بكل مستوياتهم..وهناك سؤال آخر أطرحه على الروائي علي الحديثي: هل اختط في مشوار كتابته الروائية أسلوب الرواية السيرية والتي لا تفارقه من خلال مهيمنات أخرى يكررها في كل أعماله كالمدينة/ المقهى/ المكتبة/ السجن بفوارق أزمنته/ والمرأة التي دوما يصل إليها البطل متأخرا، إما كتعويض للزوجة، أو مرض يلمّ بها، لا أدري سرّ عدم إيغال الكاتب في عوالم المرأة الداخلية بكل أبعادها وتضاريسها، فالمرأة عنده هي حالة خارجية تتحرك أمامه..والجواب من المؤكد لدى الكاتب، وهل كتب ذلك على لسان أبطاله من ذكريات وأحداث للتذكر أم للنسيان؟
---------------
- رواية ارفعوا صوت التلفاز / علي الحديثي / 2017 / دار الرابطة للنشر والتوزيع / الإمارات العربية المتحدة.. والفائزة بالمركز الأول في مسابقة دار الربطة للتوزيع والنشر للرواية العربية.
تعليقات
إرسال تعليق